ولا عزاء للرجال أحياناً
كان صبياً حين استدعاه مدير المدرسة ذات صباح ليربت على ظهره أمام جمع من الأساتذة وأولياء الأمور، لكونه قد نال جائزة الطالب المثالي. فأحسّ لحظتها بالدم يتدفّق إلى وجنتيه، لكنّه عاد وتدارك الأمر حين أقنع نفسه بأنّ الخجل هو للفتيات، ولا يفترض به أن يكون خجولاً... فهو رجل! وفوجىء ذات مرّة بخبر وفاة جدته، فأحسّ بالهلع، وبالحزن يأكل قلبه، فانزوى بهدوء في أحد الأركان لا يدري ما يفعل. هنا اقترب والده منه ليهمس له بحزم: استعد لمرافقتنا في الجنازة ، وامسح دموعك هذه، البكاء لا يكون للرجال... وأنت رجل! وأحسّ بشعور غريب ذات يوم تجاه صبيّة ذات ضحكة خجولة كان يصادفها كل صباح وهو في طريقه إلى المدرسة، فكان يضطرب كلّما مرّ من أمامها، ويحس بحاجة شديدة لأن يقترب منها ويسمع صوتها، ويتأمّل ضحكتها أكثر. وعذبته أمنيته هذه لبعض الوقت إلى أن قرّر أخيراً أن ينسى أمرها تماماً، وأن يطرح ضعفه هذا الذي يكاد يلهيه عن دراسته وواجباته، فالضعف لا يليق بالرجال، وهو يجب أن يكون قويّاً دائماً... فهو رجل! ومرّت الأيام والسنوات، وكبر وحقّق نجاحاً علميّاً وعملياً بارزاً، وبدت له أحواله مناسبة للزواج، فتزوج بمن أجمعت العائلة على حسن أخلاقها ورصانتها...
وسرعان ما وجد نفسه أباً ومسؤولاً عن أطفال يتطلعون نحوه كقدوة وكمثل أعلى في العقل والوقار والحكمة...
وماذا بعد، هو يقف أمام المرآة هذه الأيام، فتطالعه بضع شعيرات بيض داهمت رأسه على حين غرة، فيشعر بانقباض، ثمّ سرعان ما يقرّر تجاهل ما رأى، ويقرّر أن الشباب في القلب، والعمر طويل، وعليه أن يبتسم للحياة... فيبتسم! عندها يشعر بالبلاهة، فيمضي مسرعاً هارباً متذرّعاً بالأعمال التي تنتظره...
وحدث ذات مرّة أن خرج مع زوجته للتسوق فمرّا في شارع مزروع بالأشجار الباسقة على جانبيه، كان الفصل خريفاً والهواء منعشاً، وأوراق الأشجار مهرجان من الألوان الحمراء والصفراء والبرتقالية... أحسّ بنشوة غريبة، فقال لزوجته فجأة: ما رأيك أن نركض سويّة حتى آخر الشارع! ولم ينس، ولن ينسى قط النظرة التي بدت منها... فصمت!.
ثمّ حدث ذات صباح أن سمع صوتاً جميلاً لطير يقف على شجرة أمام منزله، فتلصّص خارجاً بملابس النوم، ووقف تحت الشجرة مشدوداً يتطلّع إلى أعلى عساه يلمح شكل الطير وألوانه.
ثمّ أفاق على صوت زوجته تتساءل بجزع عن سبب وقفته العجيبة تلك، فانتفض في مكانه، وتنحنح ليقول لها بنبرة رسميّة: إنّي أفكّر في عمل بحث عن الطيور المهاجرة... بحث علمي بحت! هذا كلّه لا يهم، المهم أن في قلبه حتى اليوم حنيناً غامضاً للصبايا ذوات الضحكات الخجولة... يصادف إحداهنّ أحياناً، فيخفق قلبه برعونة، وتنساب بأذنيه موسيقى حالمة، ويرى الدنيا تعبق برائحة الربيع، وبفراشات الحقول... وهكذا إلى أن يصحو على صوتها وهي تخاطبه بلقب (عمّو...).
فيعاوده الانقباض إيّاه، ويشعر برغبة في أن يبكي بحرقة... فيعدل حين يتذكر أنّ البكاء لا يليق به لأنّه رجل... هنا، يجد نفسه يكاد يبكي من جديد!