ماذا يعنى بناء نظام سياسى جديد؟
أخطر ما يجرى الآن فى حوار بعض النخب السياسية والحزبية مع النظام القائم لا يتعلق بمبدأ الحوار ذاته، فطالما لم يدع أحد أنه يمثل ثوار مصر وشبابها، وطالما لم يطلب منهم الانصراف دون تحقيق مطالبهم فلا بأس من أن يفاوض البعض الحكم، وأن يشارك البعض الآخر فى لجنة تعديل الدستور (التى تضم أساتذة محترمين وأجلاء)، ولكن السؤال: بأى هدف؟
إذا كان الهدف هو بناء نظام سياسى ديمقراطى جديد يحرص على عدم هدم مؤسسات الدولة ولا يدفع البلاد نحو الفوضى غير الخلاقة فإنه سيبقى أمراً مقبولاً حتى لو كان عبر وسائل متدرجة، أما إذا كان الهدف هو الإبقاء على نفس النظام القديم بتقديم بعض «الترقيعات» على الطريقة المباركية الشهيرة هدفها تفريغ شحنات الغضب وتحويل مطالب الثوار إلى لجان ومادتين يتم تغييرهما من الدستور، فإن هذا أمر لن يقبله ملايين المصريين الذين نزلوا إلى الشارع فى كل مكان.
والحقيقة أنه لا يوجد مؤشر واحد يقول إن الحكم مستعد للبدء فى إصلاحات حقيقية فى بنية النظام السياسى المصرى، تعمل على إدخال فاعلين سياسيين جدد فى العملية السياسية، وتغيير قانون الأحزاب، وتنهى دور الأمن فى تدمير الحياة السياسية وتعميق الفتنة الطائفية، وتفعيل دور المنظمات الأهلية، وإجراء انتخابات حرة، والاستماع للمعارضة التى اختارها الشارع وليس التى يختارها الحكم.
والحقيقة أن السؤال الذى يجب أن يُطرح أولاً: هل يرغب النظام الحالى فى إقامة نظام ديمقراطى حقيقى، وهل هو قادر على إنجاز هذا التحول فى ظل بقاء الرئيس مبارك فى السلطة؟
الحقيقة أن المعضلة الكبرى هى أن نظام الرئيس لم تعد لديه شرعية فى الشارع المصرى، وأن الحل فى إدخال قوى سياسية جديدة تحل تدريجيا مكان النظام المتهاوى الذى لم يعد يمتلك إلا الحوار مع القوى السياسية التى يتصور أنها ستقبل بأن تحل مكان نواب الوطنى الذين ستسقط محكمة النقض عضويتهم.
وتصبح القضية هى العودة إلى «إرث كمال الشاذلى» بدلا من «إرث أحمد عز»، أى توزيع ١٠٠ مقعد على المعارضة من إخوان وأحزاب سياسية وبعض الشخصيات المستقلة ويتم تسكين الأمور وتسويفها لسنوات أخرى، وكأن ثمن دماء الشهداء هو بعض المكاسب الصغيرة هنا أو هناك.
إن هذه الطريقة التى تحكم تفكير النظام حتى الآن فى المراوغة والتنفيس وكسب الوقت لم تعد مجدية، وأن المطلوب أفق سياسى جديد لن يتم إلا بتأسيس شرعية جديدة يكون فيها القديم مجرد جسر آمن نحو الانتقال للديمقراطية وإدخال قوى سياسية جديدة لساحة التنافس السياسى.
وهذا فى الحقيقة لن يتم إلا برحيل الرئيس مبارك الذى صار عبئا هائلا على نظامه وعلى مؤسسات الدولة، وتفويض صلاحياته لنائبه وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى تضم أساساً مجموعة من الخبراء التنفيذيين وقضاة مستقلين، والبدء فى الترتيب لانتخابات رئاسية حرة يكون معروفا أن أسماء مثل عمرو موسى ومحمد البرادعى وآخرين هم أبرز مرشحيها، وأن يكون النظام مستعدا للاستماع لبدائل من خارجه، وألاّ يتصور أن البديل القادم فى أى انتخابات ديمقراطية سيكون بالضرورة نائب الرئيس أو رئيس وزرائه على نفس الطريقة القديمة التى كان يحصل فيها الرئيس مبارك على ٩٠% من أصوات الناخبين.
إن التأسيس لنظام سياسى جديد لا يعنى تعديل مادتين أو ثلاث من الدستور ولكن يعنى القدرة على بناء شرعية جديدة لم يعد يمتلك النظام الحالى أياً منها، وإن هذه الشرعية لن تبنى إلا بمعرفة أن النظام الجديد لن تبنيه نفس الطرق ولا الوجوه القديمة إنما تيارات وقوى جديدة.
وهنا فى الحقيقة يجب أن يدخل شباب الثورة فى المعادلة السياسية من أجل تأسيس نظام سياسى جديد وليس التحاور مع النظام وفق الأسس القديمة.
إن بناء نظام سياسى جديد يتجاوز تعديلات الدستور (رغم أنه لا غنى عنها) ليصل إلى الإطار السياسى الذى يحكم صياغة هذا الدستور (رئاسى ديمقراطى كما نرى، أم برلمانى كما يرى البعض) وكيف يمكن وضع قواعد لإدارة إعلامنا الحكومى بعد كل جرائمه، وكيف يمكن الحفاظ على استقلال القضاء وعلى دور الجيش كحارس للدستور والدولة المدنية فى ظل نظام ديمقراطى،
وكيف يمكن إصلاح جهاز الأمن وتطهيره وعودته كخادم للشعب بعد محاسبة كل من ارتكب جرائم بحق الشعب المصرى، وكيف يمكن استعادة دور النقابات المهنية والعمالية وبناؤها بشكل مستقل، وإحداث قطيعة مع ثقافة «المنحة يا ريس»، لصالح تكريس ثقافة التفاوض وضغوط النقابات على الحكومة حتى تختفى معها الحظائر الخلفية للاستبداد كاتحادات النقابات العمالية التى ارتكبت جرائم لا تحصى بحق عمال مصر.
إن مصر تبحث عن شرعية جديدة لن تجدها فى نظامها القديم، ولابد أن تعتمد على الطاقة التى أخرجتها ثورة الشباب الذى لم ينتم معظمه إلى أى من التنظيمات السياسية الموجودة، وكسروا ثنائية الحزب الوطنى وفزاعة الإخوان، وحان الوقت لكى يؤسسوا تيارا جديدا يعيد لمصر روحها.
إن من شاهد هؤلاء الشباب سيكتشف إلى أى حد أجرم النظام القديم بحق أبنائه، فأغلبهم يتسم بالاعتدال والموهبة والمبادرة فى ظل نظام شجعهم على فعل العكس، وكيف أن غالبيتهم لا يرغبون فى أن تصبح مصر دولة ممانعة تفكر كما تفكر إيران أو سوريا أو حزب الله، وأن الاعتدال والإيمان بالديمقراطية والكرامة والتعامل بندية مع الغرب، ورفض سياسات آخر دولة احتلال فى العالم، أى إسرائيل (كما يفعل الأتراك) كانت أجندة الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب، وهى من بديهيات أى نظام سياسى يحترم نفسه وغيبها الحكم السابق.
إن هذا الخليط الذى ضم الأثرياء والفقراء، والشباب والشيوخ، والنساء والرجال، والعمال ورجال الأعمال، يؤكد أن مشكلة كل هؤلاء مع النظام القديم لم تكن فقط مشكلة سياسية أو اقتصادية إنما مشكلة مع القيم الهابطة التى رسخها فى المجتمع. فأمام كل رجل أعمال فاسد موّل بلطجية الحزب الوطنى لقتل المتظاهرين، هناك آخر شريف نزل مع المتظاهرين أو تعاطف معهم، وبين كل عامل «فهلوى» ينتظر المنحة من أى ريس هناك مئات غيره نزلوا الشارع لانتزاع حقوقهم، وبين كل شاب سلبى نائم فى بيته ينتظر المصروف أو الوظيفة هناك آلاف قاموا بثورة لتغيير واقعهم.
والحقيقة أن وجود كل هؤلاء مع الثورة خير دليل على حجم الفشل الذى جرى طوال عهد مبارك، بعد أن قتل طموحهم فى مشاركة سياسية حرة ونظيفة، إذا أردنا أن نبنى نظاماً سياسياً جديداً قادراً على نقل البلاد نحو الديمقراطية فلابد أن يقوم على فكر هذه الثورة، الذى أسس طريقا ثالثا بين كل الثنائيات السياسية المغلقة التى عرفها المجتمع المصرى، فقدم لنا شبابا إخوانيا غير الذين نراهم فى قمة الجماعة أو يصورهم النظام، وشباباً يسارياً يختلف عن الذى كنا نعرفه قبل الثورة، وآخر ليبراليا مؤمناً بالثورة، ورابعاً مستقلاً ملأ أرجاء مصر ويرغب فى العدالة والحرية.
نعم.. الشعب يريد نظاماً سياسياً جديداً.