مصر تتحدث عن نفسها
توقفت عجلة الزمن سنوات طوالاً.. قل عشراً أو خمس عشرة.. وللذين يحلو لهم القول إنها ثلاثين.. لا وقت للمناقشة، فتلك صورة سريالية على طريقة الفنان الراحل «عبدالسلام النابلسى».. وربما كانت لوحة من لوحات الفنان – الراحل من الوزارة – «فاروق حسنى».. فقد شاءت الأقدار أن يودع الحياة السياسية، ومسرح الإمساك بقيادة دولة عظيمة بحجم مصر، بآخر معرض يمكن أن يلقى اهتماماً قبل أيام من الخامس والعشرين من يناير.. هذا ليس مجرد تاريخ، لكنه قول فصل فى كتاب التاريخ.
المشهد الأول: يتبخر ابن الصدفة وشهرته «كبير عيلة نظيف أفندى» فى لحظات.. يضيع من ذاكرة التاريخ، رغم أنه شارك فى حكم مصر لما يقرب من السنوات الخمس.. ينسحق «حبيب العادلى»، وزير الداخلية، أمام الأجساد العارية خلال بضع ساعات.. رغم أنه أنهك ميزانية أقدم دولة فى التاريخ، بإنفاق مليارات لا نعرف عددها.. فالحكومة تذكر أرقاما كاذبة.. الشعب يردد أرقاماً كاذبة.. الحقيقة الوحيدة أن مصر عاشت فى عهده فترة أمن افتراضى!!
المشهد الثانى: عملاق واقتصادى ورجل أعمال.. ثم جعله قصير قامة، كاتباً صحفياً.. عرفته الأمة باسم «أحمد عز».. حقق انتصاراً ساحقاً على مصر وتاريخها.. تحكم فى كل مفاصل الدولة، ثم تبخر أو تلاشى.. اختفى مع أول همسة لثورة الشعب المصرى الشقيق.. لم يقو على سماع صوته.. وأخذ معه أستاذ العلوم السياسية بكل ما علمه لتلامذته من أكاذيب.. تبرأ منه كل من اعتقدوا أنهم الأقوياء فى زمن شديد الهشاشة.. فهم ليسوا ضعافاً.. كانوا لا شىء.. حاربهم الشعب على طريقة «دون كى شوت» فإذا بهم تلك الرياح التى لا تصرخ فى الصحراء.. ضاعت «الأسطورة المفبركة» وبقى الشعب مذهولا والرئيس فى حالة يصعب وصفها بالصدمة.. فقد كان يتمنى أن يكون مصدوما!!
المشهد الثالث: صاحب اللغة الخشبية.. يقول كلاما لا علاقة له بالكلام.. ابتكر كل ألوان تقديم الزيف للأمة.. عاش معتقداً أنه قوى.. كان يدرك أن علاقته بالزيف، كعلاقة الحقيقة بالمزيف.. يحكم مصر من أقصاها إلى أقصاها ببضع كلمات ونفر من عديمى الكفاءة.. قل منعدمى الكفاءة والموهبة.. بل قل إنهم أعداء الكفاءة والموهبة.. يمنع وصول الأحزاب إلى الدور الأرضى.. يرأس المجلس «الأعلى» للصحافة.. نصبوه كبيراً للشورى، دون أدنى دليل ذلك.. ثم أمينا عاماً واختفى فى اللحظة ذاتها التى اختفى فيها الأمن مع الإعلام مع الثقافة مع السياسة.. الشخصية واضحة على المسرح لا يجب أن نذكر اسمها.. فالتاريخ لا يعرف مثل تلك الشخصيات!!
المشهد الرابع: الكذابون على ضفاف النيل عددهم كبير.. قنوات «صرف إعلامى».. برك ومستنقعات صحفية.. كل من يعيش فيها يقدم نفسه على أنه رافد من روافد النهر.. بل اعتقد بعضهم أنهم النهر ذاته.. فجأة زكمت الأنوف رائحتهم الكريهة.. يتحصن صغارهم فيما حصلوا عليه من مكان ومكانة.. حاولوا أن يكونوا الماء الذى يسعف مشتاقاً للارتواء.. كانوا «محطة صرف» للحالة بأكملها!!
المشهد الخامس: الصغار الذين دللتهم الأمة وسخرت منهم.. اصطفوا ليصرخوا «الملك عار» فإذا بالوزير الفنان فى ظهر التاريخ.. وصاحب الشورى أسفل التاريخ.. أما المسؤول عن الأمن.. وباقى أصحاب الثروة – العورة – يتهافتون على طوق نجاة يأخذهم إلى إمارة من إمارات هذا الخليج البعيد.. أو عاصمة من عواصم الغرب الذى يتبرأ منهم، بعد أن أصبحوا غير صالحين للاستهلاك الأممى.. فقد كان أحدهم مسؤولاً عن التجارة والصناعة، وآخر منوطة به صحة القبيلة – لا يعرف أنه شعب – وثالث دخل الوزارة مطلوبا للسجن باعتباره مفلسا.. فعجز عن الهروب مالكا المليارات.. أما «بائع الكتب والأدوات المدرسية» فقد جرفته الأقدار ليكون المتحكم الوحيد فى الصورة والميكروفون والسياسة.. اكتشفنا أنه أخرس وأبكم بلا إمكانيات تؤهله للخطاب أو حتى الكلام!!
فى وسط الميدان.. يقف رمسيس باكيا.. يصرخ أحمس.. يندهش خوفو.. يرتعد خفرع.. يبدو منقرع مذهولا.. بل قل إن سعد زغلول وخلفه مصطفى كامل.. وأمامهما جمال عبدالناصر وعلى الجانب مصطفى النحاس.. وفى جانب آخر أنور السادات.. كلهم مذهولون.. هل يمكن أن يحدث ذلك على ضفتى النهر؟.. الحقيقة أنه يحدث فى زمن «....».. فإذا تركت الأمة أقدارها لمن تعرف أنه يمارس أقدم مهنة فى التاريخ.. فهى ترهن مصيرها عند المجهول.. لكن الأمة ذاتها تذكرت رمسيس وإخناتون وحتشبسوت ورفاعة الطهطاوى وطه حسين وأم كلثوم وتوفيق دياب وأحمد حلمى وصلاح طاهر وصلاح جاهين ومحمد حسنين هيكل.. وباقى الأصداف واللآلئ والألماظ التى تملكها.. فالأرض لا تسع ذكر أسمائهم.. لكنها غابت عن ذاكرتها.. فكان ٢٥ يناير هو الزلزال الذى استعادت به الأمة ذاكرتها..
وسيقول التاريخ إن هذا اليوم وقفت فيه أجهزة الأمن تدافع عن الأمة ضد الاحتلال الإنجليزى.. كما سيقول التاريخ إن هذا اليوم لقى فيه المئات من أبنائها مصرعهم على أيدى الشرطة ذاتها.. شتان الفارق بين ما كان وما هو كائن.. الفارق الوحيد أن من لا يملك أعطى من لا يستحق. تلك صورة مكتوبة على طريقة الوزير الفنان «فاروق حسنى» أى أنها لوحة لا علاقة لها بالفن التشكيلى.. ومرحلة لا علاقة لها بتاريخ أرض الحضارات التى تملك القدرة على قلب النكسة إلى انتصار عظيم.. وإن كان ما بين يونيو ١٩٦٧ وأكتوبر ١٩٧٣ ست سنوات.. فالمسافة ما بين أكتوبر ١٩٨١ ويناير ٢٠١١ ستأخذ من التاريخ سطورا أقل بكثير مما بين النكسة والانتصار.. ودفعنا الثمن.. ثم عبرنا الهزيمة ووقفت مصر تتحدث عن نفسها!!