هيه …يا
ليت لي قوة تلك الرياح حينما تضع أجنحةً لكل شيء تمر عليه، لتتطاير الأوراق المهملة في الشوارع بعيداً بعيداً عن المدينة المتسخة وتحلق عالياً قافزةً بنفسها نحو أعلى السماء خوفاً من تلك الأقدام التي داستها بعنف في المدينة.. مسكينة تلك الأوراق تظن السماء لن تتلبد بالغيوم وتعيدها بأمطارٍ قاسية نحو الأرض من جديد مبللةً مفككة مهترئة نحو الأقدام لتكمل عليها ..!!
آه.. منها تلك الأوراق تظن أن الرياح ستظل تطير بها محلقةً في الأعالي متناسية أن هنالك سكون وصمت تلجُ إليه الريح.. وتبقى الأوراق وحيدة محلقة ويُقذف بها نحو أعالي الجبال والوديان وتسقط ومع سقوطها تظن أنها ارتاحت من العذاب لتأتي ماعزُُ حمقاء وتأكلها في ثوانٍ معدودة منهية بذلك حياتها..!!
ليت لي قوة الرياح ، ولكن الحظ يخذلني ولا أملك سوى إرادة تلك الأوراق المهملة ، وأي قوة تمتلكها الأوراق .. والمهملة أيضاً .. !!
أنا ورقة أطير من شارع لآخر ومن مكان لغيره ومن حارةٍ لحارة ، أكون حيناً ذا أهمية بالغة وحيناً أُمزق ببساطة..!!
شابُُ أنا في مقتبل العمر، مذ ولدت وأنا أجد نفسي أرتع وأنهل من الشوارع كل شيء المأكل والمشرب والملبس ، وكما علمت مؤخراً كنت ابن الخطيئة وتكفل بي أحد الجيران حتى اليوم وزاد ني هذا الأمر بؤساً إذ أن حياتي برمتها ليست سوى البؤس والشقاء وكأن والديَّ لم يعيا ما هما فيه وبنى جنسهم من شقاء حتى ليكملوا شقائهم بإنجابي ومنحي المزيد والمزيد من البؤس..
لا منزل بمعنى منزل أمتلكه .. بعض الرمال بني عليها بعض الحديد ليتآكل واحد على الآخر ويكون منزلاً..!!
منذ طفولتي البائسة وأنا أعمل في الشوارع، حيناً ابتاع الجرائد للناس وحيناً أمسح واجهات السيارات وأخرى أعمل في تنظيف الشوارع مع ثلة كبيرة من بني جنسي وتستمر نوبة عملي ليلاً أو نهاراً بلا انقطاع..!!
لا أذكر أن لديَّ أصدقاء غير أصدقائي الذين تربيت بينهم ..!! جميعهم من ذوي البشرة السوداء .. أترانا نحن من خلقنا أنفسنا والآخرون تكفلوا بخلق أنفسهم..؟!
ويلهم الناس حينما يظنون أن لون بشرتي أو حتى شكلي قد يمنعهم من مصادقتي أو الحديث معي باحترام..
رجلُُ أنا ذو بشرة سوداء قاتمة ، لديَّ أنف كبير مفلطح وشعري مجعد وفمي كبير..!!
ولكني إنسان ولست مسئولاً عن خلقي على هذه الهيئة وبرغم هذا يرفض المجتمع اندماجي معه، يرفض تطوري واهتماماتي أو حتى حقي بالحياة..!!
يرفضون اسمي ويدعونني بلفظ غريب " يا خادم " لما الاستغراب والجميع حينما يمر من أمام مساكنا يقول " هنا يعيش الأخدام" وكأننا تحفة عجيبة..!!
أُدعى عدنان وابن خالتي يدعى جمال وصديقي اسمه محمد ، جميعنا نحمل أسماءً فلما لا نُدعى بها..؟!
آه.. كم أشعر بالألم يدمي حياتي وكم يلفني اليأس حتى ليكاد يخنقني..
لا مجال للتغير أو حتى محو هذا الأمر من المجتمع ، جميعنا نعمل في أماكن هامة متواضعة لخدمة الناس ولكنهم لا يشعرون بنا…
أغيب مع مكنستي وأطرافها المتكسرة المنحرفة بين أوراق الشوارع ، أقذف بالتراب مغطياً به كومة من الأوراق ..؟! أأريد دفن نفسي !! هل هذا هو الحل يا الله .. مال الرياح لم تقذف بي عالياً من جديد..؟! ما بالها الأمطار لم تهطل لتغسل عني التراب ولتعود الأقدام لدوسي من جديد..!! أ أريد الانتحار ؟! هل سيتغير شيء .. لما لا..؟ بل أظن لا .. كل ما سيحدث رجلُُ آخر أسود سيحمل مكاني ليزداد بؤسه وشقائه..
آه.. أيتها الأوراق أين تأخذينني بأفكاري .. أما زلت حياً..؟ !
- " هيه .. يا خادم ابتعد عن الطريق.." ..!!