أسباب الحروب
يؤسفني قول هذا .. ولكن معظم الحروب في التاريخ وقعت لسبب تافه وغير
نبيل .. ومهما أضفى عليها المؤرخون والمنتفعون من صفات العظمة والتضحية
والبطولة (ووو) تظل في حقيقتها مجازر بشرية يمكن تجاوزها بقليل من العقل
والرؤية
.. وأقدم نموذجاً نعرفه (للحروب التافهة) هي حرب داحس والغبراء - التي
قامت في الجاهلية - ومات بسببها عدد هائل من فرسان بني يعرب.. وقد نشبت
أساساً بين قبيلتي عبس وذبيان (وكلتاهما من بني غطفان) بسبب سباق بين
داحس (وكان حصاناً لقيس بن زهير العبسي) والغبراء (وكانت فرساً لحمل بن
المنذر الذبياني) ..
وبسبب ضخامة الرهان)مائة من مزايين الإبل) أعد حمل الذبياني كميناً لداحس
في منتصف الطريق.. فقد أمر فتياناً من قومه بالظهور فجأة أمام داحس مما
تسبب بسقوط الفارس وخروجه من السباق.. غير أن المؤامرة كشفت فحكم الحضور
لداحس بالنياق فتطاول حمل (صاحب الغبراء) على قيس بالشتائم، فما كان من
قيس إلا أن طعنه فأرداه قتيلاً فقامت بين القبيلتين حرب استمرت لأربعين
عاماً...
ويبدو أن قبيلتي بكر وتغلب أصابتهما الغيرة من معارك عبس وذبيان فبدأتا
بدورهما حرباً ضروساً دعيت حرب البسوس.. وقد نشبت بسبب امرأة تُدعى
بالبسوس قتل كليب التغلبي ناقتها فاستنجدت ببني قبيلتها فانتصر لها جساس
البكري الذي قتل كليباً انتقاماً للناقة.. وحين علم الزير سالم (أخو
كليب) طلب الثأر من بني بكر فتداعى فرسان القبيلتين للحرب واستمرا على
هذه الحال طوال أربعين عاماً (... من أجل ماذا مجدداً!؟ ... ناقة )!!
وكي لا نظلم الأعراب - ولا مزايين الإبل والنياق - نشير إلى وجود نماذج
حربية مماثلة في تراث "الخواجات"..
فأطول حرب في التاريخ قامت بين فرنسا وبريطانيا بسبب شاربين لايقف
عليهما الصقر.. فقد يئس من طولهما ملك فرنسا لويس السابع فحلقهما في ليلة
ظلماء بدون استئذان زوجته. ورغم أنه أصبح أكثر وسامة إلا أن شكله الجديد
لم يرق لزوجته إليانور (وريثة مقاطعتي غويين وبواتو) فطلبت الطلاق. وبعد
فترة تزوجت إليانو ملك انجلترا هنري الثاني ومنحته المقاطعتين كهدية..
ولأن المقاطعتين تقعان في جنوب فرنسا رفض لويس الاعتراف بتبعيتهما لملك
انكلترا فقامت حرب بين الطرفين استمرت ل 300عام (بين 1152و1453) دون أن
يعرف آخرها سبب أولها!!
.. حتى السويسريون (المحايدون بطبعهم) يملكون في تراثهم حرباً قامت بسبب
صورة "دب".. فمن المعروف أن "الدب" هو شعار مشترك للإقليمين السويسريين
ابنزيل وسانغال. وفي عام 1579أقام رئيس سانغال احتفالاً تهكم فيه على
"دب" ابنزيل ووصفه بأنه دب أنثى (وأن دبهم هو الذكر) .. وكما حصل بين
العربان اغتاظ فرسان ابنزيل وطلبوا الاعتراف بذكورية دبهم فأصر رئيس
سانغال على موقفه فوقعت بين الطرفين حرب دامت سنتين ذهب ضحيتها آلاف
الرجال (قبل أن يتفق الطرفان على أن دب كل منهما ذكر ... وذكر جداً)!!
... هذه مجرد نماذج لحماقات وتفاهات أشعلت معظم الحروب في التاريخ...
حماقات غلفت بالوطنية والقدسية - والبطولات الفارغة - في حين أنها تستخف
بالنفس البشرية كأغلى هدية في الوجود .. ورغم مظاهر التحضر التي يبدو
عليها بنو يعرب - هذه الأيام - إلا أن عقلية داحس والغبراء مازالت تنتظر
فرساً صهباء أو ناقة حسناء تثير نخوة القبيلة وعصبية الأجداد...!