قست ظروف العيش بالقرية على خديجة فساقتها للعمل عند إحدى الأسر الثرية بالمدينة .
لاحظ أهل البيت صفاء محياها الذي تنبعث منه ابتسامات وضاءة تزيدها جادبية وجمالا .
إنها في عنفوان الحيوية والنشاط ، على عتبة السنة التاسعة عشرة من عمرها .
توجست مشغلتها وظنت الظنون . فضاقت رحابة البيت وشساعته بوجودهما معا .
استعرضت في مخيلتها ما سيحل ببيتها بوصول هاته الخادمة .
خادمة جميلة في مقتبل العمر ، وزوج لا زال غير ثابت ولا متزن .
لم يستطع - كعادته - إخفاء المبالغة باهتمامه بالوافدة الجديدة . وكشفته حركاته ونظراته ، وأفصحت عن نواياه مجاملاته وعباراته .
ورددت مع نفسها :
أعرف عن سلوكاته المارقة الشيئ الكثير .
والآن تيقنت من شروعه في الانزلاق عن مساري الجد والرزانة مرة أخرى
.لكني لا أقوى على الإفصاح عن هواجسي ، مخافة أن أتهم بالغيرة والحسد .
سألجأ إلى وسائل أخرى .
طوقت بعناية كل تصرفاته ، وأحاطته بالمزيد من الحرص والتتبع ، إلى أن حل موعد سفره المعتاد لتدبير تجارته بأسواق بعيدة عن مدينته
كما منعت الخادمة من لباسها وأعطتها أطمارا تليق بالخادمة في نظرها ، ومنعتها من التواصل والاحتكاك بكل أفراد الأسرة ذكورها وإناثها .
تجلس الخادمة منفردة ، وتأكل وحدها وتستقر دائما بالقبو داخل المطبخ ، وتشتغل ليل نهار .
لم تأبه الخادمة بكل ذلك
تعمل بحيوية ونشاط ، لا تهتم إلا بنفسها وواجباتها في البيت .
استغربت المشغلة أمرها ، وازداد ضيقها وخوفها أمام صلابة الخادمة وتحديها ، فأخذت تختلق أسبابا لشتمها وإهانتها .
ثم طورت أسلوبها إلى الحرمان من الراحة والأكل .
تحملت خديجة الجوع مدة إلى أن فرغت ذاتها ولازمتها أمغاص المعدة و الأمعاء .
ومع الأيام فقدت الصبر والتحمل .
إنها تتضور جوعا . أرهقها التعب وأفنتها القسوة والحرمان . اضطرت مراراإلى البحث في كل أرجاء البيت عن بقايا طعام تسد به رمقها ، ولكن هذه المرة بدون جدوى .
إلى أن شعرت بجهد وعياء غريبين فآوت إلى أحد أركان المطبخ .
ضغطت على أمعائها بدراعيها وأخذت تصغي إلى ترانيم غليانها .
لف المكان صمت رهيب ، امتزجت فيه أنفاسها بنبضات قلب يصارع من أجل البقاء . تتناهى إلى سمعها دقات بطيئة وغائرة ، كدقات طبول جيوش زاحفة مستعدة للمعركة .
اشتدت عليها الآلام فأخذت تصيح مستغيثة بصوت منهك مبحوح إلى أن أغمي عليها
لم تدر ماذا جرى .
لما أفاقت وجدت نفسها على سريربالمستشفى .
أشفق الطبيب المعالج من حالها ، وخاصة لما عرف أنها يتيمة الأب والأم ، تتمتع بنصيب وافر من الحسن والفطنة والذكاء .
لقد مكثت بالمستشفى أزيد من شهر ولم يسأل عنها أهل ولا أقرباء .
بعد علاجها ، ومطالبتها بمغادرة المستشفى ،
رق الطبيب لحالها ، وحملها لتعيش مع أبنائه .
رحبت بها سيدة البيت ، واعتبرتها أختا صغيرة ببيتها .
أخذت الوافدة تقرأ وتتعلم ، وتساعد جهد المستطاع في أشغال البيت . وتشبعت وسط اسرتها الجديدة ، بمقومات سلوكهم القويم ، وأخلاقهم الفاضلة .
وعاشت بينهم أسعد أيامها ، إلى أن زفت إلى بيتها بعد أن تزوجها أحد أصدقاء هذه الأسرة .