لم تعرف يوم ولدت أن القيم والمبادئ قد تبدلت.. وحل محلها الكذب والنفاق.. توهمت أن القلوب ما زالت تنبض فيها شرايين الرحمة.. وتلين إشفاقا على البؤساء.. ظننت أن فى الحياة خيرا لابد فى النهاية أن يقهر كل شر على الدوام.. عشت كما الصغار من بنى جنسي لا ابالى .. ولا ادرك عن القادم شيئا قد اخشاه.. فما دامت الحياة هكذا فلابد أن نحياها.. كبرت مع الأيام أحلامي.. وإلى عنان السماء وصلت أمنياتي.. توسمت فى كل من حولي الطيبة.
لم أقرأ أبدا ما بين السطور، ولم أنظر إلى ما خلف الأقنعة.. فكان أول احتكاك مع البشر زلزال هز جسدي وكسر ضلوعي وأخرج أحشائي. أيقنت أن لا معنى لكلمة "بشرية" ولا وجود لـ"إنسانية".. سمعت عن شباب يغرقون فى أعماق البحر هربا من الموت جوعى أو من الانحراف والسرقة.. ماتوا بحثا عن حياة كريمة فقط أرادوا أن يحيوا طالما وجدوا فى الحياة.
علمت بالأرواح التى تزهق كل يوم فى حوادث الطرق، رغم الإعلان عن إنفاق مئات الملايين من الجنيهات على تطوير هذه الطرق.. أفزعني نبأ حادث قطار الصعيد الذى احترق، وتفحمت فيه جثث المئات.. واسودت الدنيا فى عيني بعد غرق الأبرياء فى عبارة السلام 96 التى راح ضحيتها المئات ولم يتحمل المسؤولية عنهم أحد، رغم القوانين والدساتير والسجون والاعتقالات والأمن والبلدوزرات التى لا تستخدم جميعها إلا للأهواء.. أصبحت أنام على صوت كارثة واصحو على صوت كارثة أخرى.. والقائمون على الأمر باقون صامدون متحفزون لأى بوق يعلو هنا أو هناك.. لا يهتز لهم حاجب.. بل يزدادون قوة وتوحشا.. يعبثون بالدستور.. ويفصلون القوانين على مقاساتهم.. يغتنمون الثروات، ويدعون العمل من أجل الناس.. حتى انتفخت بطونهم وترهلت.
أدركت أن الفساد والقوة هى القانون، ولا قيمة لفقير أو ضعيف، وأن البشر لا يتغيرون.. ورغم أنها ليست بشرية فقد هالني حالهم وشعرت بأن الناس لا يمكن أن يغيروا شيئا.
اخترت بمحض إرادتي الرحيل.. وتيقنت أن الموت هو طوق النجاة.. رحلت ولم أكن تعلم أني سأصبح الأشهر من بنى جنسي فى هذه الدنيا، وأن رحيلي سيهز أحد معاقل الفساد.. ويخلع طوبة من قلعة الظلم والاستبداد.
كشفت برحيلي كل الأقنعة.. ووضح ما بين السطور.. كان رحيلي حقا موجعا، ومؤلما لمنعدمى الضمير، أكلى لحوم البشر من المسئولين الذين يتاجرون بالمواطنين.. باعوا ضميرهم منذ جلوسهم على كراسيهم.. فلا هم لهم سوى كنز الأموال.
غادرت وتركت "رسالة" واضحة جلية هى أن الحيوانات ثارت ولم تعد تطيق تخريب البشر وأن ثورة الخنازير والطيور والجراد والفئران مجرد بداية.. وأيضا رحيلها هى تحت عجلات قطار العياط، واستقالة وزير النقل كان مجرد بداية.